الإنسان
ونبوّةُ محمد صلى الله عليه وسلم
(1/2)
بقلم : الأخ
محمد هداية اللّه الآسامي القاسمي(*)
الإنسان
بالقياس إلى ما يحيط به من حوله من الكون الهائل ومافيه من السماء والأرض، والشمس
والقمر، والنجوم، والبراري والبحار، والسهول والجبال، ذرّةٌ تائهة في الفضاء الواسع
لا مستقر لها ولاقيمة، وهو – إلى ذلك – نوع لأحد المواليد الثلاثة التي تتكون من
العناصر الأربعة؛ فله من الشأن والاعتبار مالغيره دونما تفريق ولاتمييز ولامفاضلة؛
نظرًا إلى طبيقهما العنصرية وهويتهما المادية .
غير
أن الله سبحانه فضّله على لِداته كلها بأن اصطفاه لرسالته، وأهَّلَه للخلافة
الأرضية، وجعل له السلطانَ الأكبر على ما عداه؛ فكان موضعه في الكون موضع الدرّة
اليتيمة في الصدف.
وما
من شك في أن الله عز وجل لم يمنح الإنسان هذه الكرامة والفضل عبثاً، وإنما
خَوَّلَهما عليه لغاية سامية وهي: أن يوحِّد الله في جميع حركاته وسكناته وسرّائه
وضرّائه، ويعيش حياته الفردية والجماعية في مظهره ومخبره حسب الدستور السماوي حتى
يخرج من مضيق الأرض إلى فسحة السماء، فيبصر النور الذي يتخبط دونه في دياجير
الظلام ..
ولكن
دراسةً عابرةً لتاريخ الإنسانية تؤكد أن الإنسان – تعامـٰـى عن الغاية
وتَغَيَّا غيرَها، وأبى إلا أن يكفر بتلك النعمة العظيمة التي طوّق الله بها جيده
فهوىٰ من قمة الكرامة إلى سفوح الذل والهوان، وتدهور من علياء العظمة
والفضيلة إلى حضيض الضعة والإسفاف .
تاريخ
الإنسانية – منذ أن خلق الله أبا البشر۴ وإلى قيام الساعة – روايةٌ إلـٰـهية
متسلسلةٌ، على شاشة العالم المادّي، متألّفة من فصول متنوعة توزّعّتها القرون
والأحقاب، معظم فصولها تتراءىٰ فيها الإنسانية في صورةٍ غير الصورة التي
صوّرها الله بها، وبوجهٍ غير الوجه الذي أكسبتها إياه الطبيعة، وبأدوارٍ غير
الأدوار التي عهد الله إليها بتمثيلها، إلا فصلاً واحدًا يتوسط الفصولَ، يبرز فيه
النوع الإنساني بما يصبو إليه من حيث هو إنسان، من أصالة الصورة، وجمال الهندام،
ودماثة الخلق، وصحة المذاهب، وسمّو الأهداف؛ وهو الفصل الذي سطعتْ عليه شمس النبوة
المحمدية فكَهْربته بلألائها وبهائها؛ فبات أروعَ فصلٍ يتألّق في الرواية الإلـٰـهية،
كمصباح الراهب في ظلمات الصحراء.
لقد
أخذت الإنسانية – عبر هذه الرواية الإلـٰـهية – تقطع مسيرةً طويلةً لايُدْرى
طرفاها، وكأنها قافلة من الإبل، يقودها من قُدّامها ابوالبشر آدم (عليه السلام)،
ويسوقها مِن خلفها حاديْها المجهار إسرافيل (عليه السلام)، ممسكاً بيده الصور؛ فهي
تمضي دائبةً في نسق واحد لايصدّها عن مسارها ليل ولانهار، أو كأنها قطار متسق
السير على قضبانه لايتحرف، ببطء السلحفاة في زحفها لاتلوي على شيء.
وقد
قيض الله جل وعلا لهذه القافلة عددًا وجيهًا من أنبيائه الغر الميامين، وفرّقهم في
طريقها بين كل مسافة وأخرى المرور في مفارق الطرق؛ لتوجيه القافلة إلى الاتجاه
الصحيح المستقيم، وصيانتها من العمه والضلال؛ فكانوا يعلمونها مناهج السلوك،
ويرسمون لها غايتها التي يجب أن تتغياها عبر هذه المسيرة، ويتحايلون بمختلف لأساليب
على توعيتها بما هو النفع ودونه الضر، والخير ودونه الشر، والحق ودونه الباطل،
والهدى ودونه الضلال.
بيد
أنها لِعِوَجها الفكري، وجهلها المطبق، وعنادها الشديد لم تخضع للقوانين، ولم
تتقيد بالمناهج، ولم تحتذِ بالأنبياء فيما كانوا يدعون إليه إلا قليلا جدًا، وكأنها
زعمت من نفسها أنهم لايبغونها إلا شرًا، ولا يستهدفون بهذه المواعظ الجذابة إلا
تقصيُّدَها لحسابهم واستغلالَ السيادة عليهم، ببسط النفوذ والسيطرة فيها، وما هذه
المواعظ الرنانة إلا رمادٌ يذرّونه في أعينها.. حتى لقد تفرست ماتكنه صدورهم من
المطامع والأغراض؛ فازورّت عنهم كما تندّ الأبقار من براثن الجزّاره .
ولم
يزل بهم الأمر على شاكلته حتى دبّ إلى قلوب الأنبياء الأمناء دبيب اليأس والقنوط
بحكم الطبيعة البشرية، فهبّ أحدهم يشكو إلى ربه ما عشّش على قلوب قومه مِن رواسب
القساوة والانطوائية، فيقول في كلمات كأنما صيغت من عصارة الألم والأسىٰ: «رَبِّ
إنّي دَعَوْتُ قَومي لِيْلاً ونَهَارًا فَلَمْ يَزِدْ هُمْ دُعَائي إلاّ فِرَارًا»!!.
بعد
نبي الله عيسى بن مريم۴
بدأ في التاريخ أظلمُ عصر دامت فترته طويلاً، ولم يوجد في طريق القافلة آمرٌ ولا
ناه إلا الهوس والهوى، ولا من يأخذ بيدها من الانحرافِ إلى السداد، ومن الغىّ إلى
الرشاد إلا الظنون والأوهام؛ فتاهت الإنسانية هائمةً على وجهها، وافتأتت في حياتها
برأى السكّير المعربد في سيره، والثميل المترنح في تصرفاته، وأصبحت حياتها عبارةً
عن الاصطراع الفكري، والاضطراب النفسي، والفوضي الاجتماعية، والمنكرات البهيمية،
حيث عمت المظالم، وكثرت الحروب، وسادت صمة الرشوة والربا بلغت السُّخرة والعبودية
أوجَهما وتألّهت الأحجار والأشجار والأبقار، وتأسَّدَ التقليد الأعمىٰ
للآباء العميان، وراجت الرذائل والدنايا على حساب المروءة والإنسانية، حتى ذابت
أسس الفضيلة في مستنقع آسن، وانهارت دعائم الأخلاق، وتفككت أوصال المثل العليا،
فتجرّد النوع البشري عن المزايا الإنسانية بحذافيرها.
وأما
عربُ الجاهلية فرغمَ مقارفة تلك الآثام وأمثالها تبقّت لديهم وَمَضات باهتة منه
التوحيد الإبراهيمي، تُومض فيهم كالحباحب في غسق الليل، لم تخمدها بعدُ عواصفُ
هوجاء من خزعبلات العجم، إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحي وهو الذي نصبَ أولَ صنم في
جوفِ أولِ بيت وضع للناس ببكة؛ فسَرَتْ منهم الوثنية والشرك وعبادة الأصنام مسرىٰ
الدم والروح، فقد حل الشرك محل التوحيد، وقامت الوثنية السخيفة مقام الألوهية الخالصة،
وداهَمَ مركزَ الإشعاع والنور كابوسُ الظلمات.. حتى نَسُوا خالقَهم وهو معهم أينما
كانوا، واتّبعوا الشهواتِ والملةُ الحنيفيةُ بمتناول أيديهم، وطافو بالكعبة
تعظيمًا لِما في جوفها من «هُبُل»،
لا لِمنْ هي له من الإله الواحد الأجل.
إن
عَمى القلب إذا ازداد تماديًا وإطباقًا، أدّى بالمرء إلى عمَى البصر، فأذهب عنه
قوة التمييز بين الحسن والقبيح، ينظر إلى كل شيء ولا تتجلى لعينه حقيقةُ ما يُبصر،
ويستشف المحسوسات بإنعام النظر من حيث لايتبين له الخبيث من الطيب؛ فهو والأعمى
يتّفقان في المعـانــي، ولايفتــرقان قال إلا في الألوان والأشكال .
وبذلك
فقد عادت الإنسانية في هذا الفصل القاتم وقد عَمِيَ بصرها بعمى القلب متخبّطةً في
ظلمات ثلاث: ظلمة العقيدة، وظلمة العمل، وظلمة الأخلاق، تدين بخيالات ملفّقة تطير
بجنباتها الأوهام والظنون، وتجترح من الأفاعيل الشنعاء ما تغبطها عليه الأبالسة
والشياطين، ويتعامل أفرادها بعضهم مع بعض بما تستنكف عنه الكلاب والخنازير، فكأنها
الجنين في رحم الجاهلية يتخبط في ظلمات ثلاث، لايعلم شيئًا، ولايعرف ماذا يأكل،
ولا ماذا يفعل، فيتحرك عبثاً ويتغذى بدم الحيض.
إن
الإنسانية في هذا الاختضار الخانق لا تعرف أنها فيه فتبغىَ عنه الخلاصَ، وكأن
التاريخ متفرج عليها لايتحرف، واقف لايتزحزح، ضيق لايتّسع، جامد لاينمو. وكأن حكمة
الله البالغة تخترق الغيوب، وتتجلى في غموض، وترقب ما حل بها من غير نسيان، وتمهل
من غير إهمال، وكأن رحمة الله الواسعة تُطِلّ من فوق السبع الطباق على هذه
الإنسانية المخنوقة وترثي لحالها فتسبق الغضبَ.
* * *
* *
محـرم –
صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير 2008م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 32